في لقاءه الأخير بأعضاء مجلس الأمة في 26 أكتوبر 2004 وجد أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد - رحمه الله - صعوبة في إلتقاط أنفاسه بعد أن سار المسافة بين مدخل مجلس الأمة وسدة الرئاسة حيث أصر على الحضور شخصيا جلسة إفتتاح دور الإنعقاد الثاني من الفصل التشريعي العاشر رغم أن صحته حينذاك لم تكن تساعده .
ساد صمت مهيب دام دقائق قبل أن يتمتم الأمير الراحل بكلمات قليلة تكاد تسمع ' بسم الله وعلى بركة الله نفتتح الجلسة وأسأل الله لكم التوفيق والسداد ' .
قبل ذلك بعام تحدث الشيخ جابر الأحمد في المكان نفسه بكلمة إرتجالية على , غير العادة , خاطب فيها النواب بشكل مباشر قائلا ' سامحوني على أي تقصير ' ثم إلتفت يمينا وعانق ولي العهد آنذاك الشيخ سعد العبدالله طويلا في ظل تصفيق طويل ذو مغزى من الحضور نوابا ونوابا سابقين ورجال سياسة .
الشيخ جابر الأحمد منذ إستلامه مسند الإمارة 31 ديسمبر 1977 كان رجل حكم لا رجل حكومة فالتفاصيل الدقيقة يتركها لرئيس الوزراء والوزراء وكبار المسؤولين ويحاسبهم ضمن الإطار الدستوري وعبر رئيس الوزراء لهذا وجد وقتا كافيا للتفكير بالقضايا الكبرى التي تهم وطنه وأمتيه العربية والإسلامية فكانت مبادرات جابر الأحمد التي تحققت في عهده على أرض الواقع ومنها : إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية , وإنشاء الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية وهي هيئة إقليمية مقرها الكويت , وإنشاء مؤسسات ذات طابع حضاري ومتقدم في الكويت ومنها الهيئة العامة للإستثمار , إحتياط الأجيال المقبلة , المؤسسة العامة للتأمينات الإجتماعية , الهيئة العامة لشؤون القصر , شركة المشروعات السياحية ( أبراج الكويت, المدينة الترفيهية) , تنفيذ مشروع الواجهة البحرية .
لدى عودته من رحلة العلاج في 15 يناير 2002 كانت الكويت على موعد تاريخي بلغت فيها العلاقة الإيجابية بين الحاكم والحاكم ذروتها فلم يصدق المراسلون الأجانب الذين حضروا لتغطية هذا الحدث أن شعبا بأكمله يستقبل زعيمه وينهض منذ الفجر البارد جدا لينتظر وقبل ساعات قرب الشوارع التي سيمر بها موكب الشيخ جابر .
وكم كان المنظر مهيبا والأطفال يقفون جنبا إلى جنب مع كبار السن ويحييان معا 'بابا جابر' وهي الكنية الأشهر لسمو الأمير الراحل ويذرف البعض الدموع وهو يرى الشيخ جابر يحاول جاهدا رغم تعب المرض والسفر رفع يده محييا مستقبليه بإبتسامته الخجولة التي طالما رسمها على محياه لسنين طويلة .
العلاقة في تلك الفترة بين المعارضة والحكومة لم تكن إيجابية بل كانت تتسم بالتصعيد المتبادل ولكن كان هناك فصل تام بين الحكم والحكومة فالحكم علاقة متجذرة بالأنفس والحكومة تحاسب بقدر الخطأ .
في 15 يناير 2006 كان الكويتيون على موعد من الحزن فقد حان فراق أمير القلوب فكانت صبيحة هذا اليوم مليئة بالصدمة ما جعل جموعا من الشعب الكويتي تتجمع وبعفوية أمام بوابة قصر دسمان حيث يقيم سمو الأمير الراحل فإمتلاء دوار دسمان بقلوب محبة تذرف الألم وهي ترى جثمان أمير القلوب يتجه في موكب مهيب إلى المقبرة ولا يكاد مئات الآلاف من المحبين يصدقون وهم يراقبون إجراءات دفن جابر الخير عبر التلفزيون أنهم لن يروا 'بو مبارك' مرة أخرى .
وكم كانت دهشة الزعماء العرب الذين حضروا مراسم الدفن ومراسم العزاء في قصر بيان من هذا الحجم الكبير من المعزين ومن مشاعر الحزن الحقيقي على فقدان أمير الكويت فقد كانت المشاعر عفوية وعميقة وتجسد علاقة الحاكم بالمحكوم التي كانت دوما سرا يميز الكويت عن غيرها من الدول , ونكهة لا يمكن تصور الكويت من دونها .
حين تعرض الشيخ جابر الأحمد لمحاولة إغتيال في 25 مايو 1985 ألقى كلمة بثت في التلفزيون وهو يرتدي الغترة فقط وآثار محاولة الإغتيال بادية عليه قال فيها عبارة تكشف عن عظمة هذا الزعيم التاريخي , والعظمة لله , ' إن عمر جابر الأحمد مهما طال الزمن هو عمر إنسان يطول أو يقصر ولكن الأبقى هو عمر الكويت والأهم هو بقاء الكويت والأعظم هو سلامة الكويت.'
مات جابر الأحمد فغادرنا الجسد وبقي الذكر خالدا فمن زرع حب شعبه حصد ثمار الحب الأبدي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق